فصل: وأجابوا عن حديث أبي سعيد المتفق عليه بثلاثة أجوبة‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن **


وقد كنطت حررت مذهب مالك في ذلك في الكلام على الربا في الأطعمة في نظم لي طويل في فروع مالك بقولي‏:‏

وكل ما يذاق من طعام ربا النسا فيه من الحرام

مقتاتًا أو مدخرًا أو لا اختلف ذاك الطعام جنسه أو ائتلف

وإن يكن يطعم للدواء مجردًا فالمنع ذو انتفاء

ولربا الفضل شروط يحرم بها وبانعدامها ينعدم

هي اتحاد الجنس فيما ذكرا مع اقتياته وأن يدخرا

وما لحد الادخار مدة والتادلي بستة قد حده

والخلف في اشتراط كونه اتخذ للعيش عرفًا، وبالاسقاط أخذ

تظهر فائدته في أربع غلبة العيش بها لم تقع

والأربع التي حوى ذا البيت بيض وتين وجراد زيت

في البيض والزيت الربا قد انحظر رعيًا لكون شرطها لم يعتبر

وقد رعي اشتراطها في المختصر في التين وحده ففيه ما حظر

ورعي خلف في الجراد باد لذكره الخلاف في الجراد

وحبة بحبتين تحرم إذ الربا قليله محرّم

ثم ذكرت بعد ذلك الخلاف في ربوية البيض بقولي‏:‏ وقول إن البيض ما فيه الربا إلى ابن شعبان الإمام نسبا

وأصح الروايات عن الشافعي أن علة الربا في الأربعة الطعم فكل مطعوم يحرم فيه عنده الربا كالأقوات، والإدام، والحلاوات، والفواكه، والأدوية‏.‏ واستدلّ على أن العلة الطعم بما رواه مسلم من حديث معمر بن عبد اللَّه رضي اللَّه عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ الطعام بالطعام مثلاً بمثل ‏"‏ الحديث‏.‏ والطعام اسم لكل ما يؤكل، قال تعالى‏:‏ ‏{‏كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا وَقَضْبًا‏}‏، وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ‏}‏، والمراد‏:‏ ذبائحهم‏.‏

وقالت عائشة رضي اللَّه عنها‏:‏ مكثنا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سنة ما لنا طعام إلا الأسودان التمر والماء، وعن أبي ذرّ رضي اللَّه عنه في حديثه الطويل، في قصه إسلامه، قال‏:‏ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏فمن كان يطعمك‏؟‏ ‏"‏ قلت‏:‏ ما كان لي طعام إلا ماء زمزم فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، قال‏:‏ ‏"‏ إنها مباركة، إنها طعام طعم ‏"‏ رواه مسلم‏.‏

وقال لبيد‏:‏

لمعفر قهد تنازع شلوه غبس كواسب ما يمن طعامها

يعني بطعامها الفريسة،

قالوا‏:‏ والنبيّ صلى الله عليه وسلم علق في هذا الحديث الربا على اسم الطعام، والحكم إذا علق على اسم مشتق دل على أنه علته، كالقطع في السرقة في قوله‏:‏ ‏{‏وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ‏}‏، قالوا‏:‏ ولأن الحب ما دام مطعومًا يحرم فيه الربا؛ فإذا زرع وخرج عن أن يكون مطعومًا لم يحرم فيه الربا، فإذا انعقد الحب وصار مطعومًا حرم فيه الربا، فدل على أن العلة فيه كونه مطعومًا، ولذا كان الماء يحرم فيه الربا على أحد الوجهين عند الشافعية؛ لأن اللَّه تعالى قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُوا اللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ‏}‏، ولقول عائشة المتقدم‏:‏ ما لنا طعام إلا الأسودان الماء والتمر، ولقول الشاعر‏:‏ فإن شئتِ حرمت النِّساء سواكم وإن شئتِ لم أطعم نقاخًا ولا بردا

والنقاخ الماء البارد، هذا هو حجة الشافعية في أن علّة الربا في الأربعة الطعم، فألحقوا بها كل مطعوم؛ للعلة الجامعة بينهما‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ الاستدلال بحديث معمر المذكور على أن علّة الربا الطعم لا يخلو عندي من نظر، واللَّه تعالى أعلم؛ لأن معمرًا المذكور لمّا قال‏:‏ قد كنت أسمع النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏الطعام بالطعام مثلاً بمثل‏"‏‏.‏ قال عقبة‏:‏ وكان طعامنا يومئذ الشعير كما رواه عنه أحمد ومسلم، وهذا صريح في أن الطعام في عرفهم يومئذ الشعير، وقد تقرر في الأصول أن العرف المقارن للخطاب من مخصصات النص العام، وعقده في ‏"‏مراقي السعود‏"‏ بقوله في مبحث المخصص المنفصل عاطفًا على ما يخصص العموم‏:‏ والعرف حيث قارن الخطابا ودع ضمير البعض والأسبابا

وأشهر الروايات عن أحمد أن علة الرّبا في الأربعة كونها مكيلة جنس، وهو مذهب أبي حنيفة، وعليه يحرم الربا في كل مكيل، ولو غير طعام كالجص والنورة والأشنان‏.‏ واستدلوا بما رواه الدارقطني عن عبادة وأنس بن مالك أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ما وزن مثل بمثل إذا كان نوعًا واحدًا وما كيل فمثل ذلك، فإذا اختلف النوعان فلا بأس به‏"‏، قال العلامة الشوكاني في ‏"‏نيل الأوطار‏"‏‏:‏ حديث أنس وعبادة أشار إليه في ‏"‏التلخيص‏"‏ ولم يتكلّم عليه، وفي إسناده الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وغيره، وضعفه جماعة، وقد أخرج هذا الحديث البزار أيضًا، ويشهد لصحته حديث عبادة المذكور أولاً وغيره من الأحاديث‏.‏ اهـ منه بلفظه‏.‏

واستدلوا أيضًا بما رواه البخاري ومسلم عن أبي سعيد وأبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر، فجاءهم بتمر جنيب، فقال‏:‏ ‏"‏أكل تمر خيبر هكذا‏"‏ قال‏:‏ إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال‏:‏ ‏"‏لا تفعل، بع الجمع بالدراهم، ثم ابتع بالدراهم جنيبًا‏"‏، وقال‏:‏ في الميزان مثل ذلك، ووجه الدلالة منه، أن قوله في الميزان، يعني في الموزون؛ لأن نفس الميزان ليست من أموال الربا، واستدلوا أيضًا بحديث أبي سعيد المتقدم الذي أخرجه الحاكم من طريق حيان بن عبيد اللَّه، فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏التمر بالتمر، والحنطة بالحنطة، والشعير بالشعير، والذهب بالذهب، والفضة بالفضة، يدًا بيد، عينًا بعين، مثلاً بمثل، فمن زاد فهو ربًا‏"‏، ثم قال‏:‏ ‏"‏وكذلك ما يكال أو يوزن أيضًا‏"‏ وأجيب من جهة المانعين، بأن حديث الدارقطني لم يثبت، وكذلك حديث الحاكم، وقد بينا سابقًا ما يدل على ثبوت حديث حيان المذكور، وقد ذكرنا آنفًا كلام الشوكاني في أن حديث الدارقطني أخرجه البزار أيضًا، وأنه يشهد لصحته حديث عبادة بن الصامت وغيره من الأحاديث، وأن الربيع بن صبيح وثقه أبو زرعة وغيره، وضعفه جماعة، وقال فيه ابن حجر في ‏"‏التقريب‏"‏‏:‏ صدوق سَيِّىء الحفظ، وكان عابدًا مجاهدًا، ومراد الشوكاني بحديث عبادة المذكور، هو ما أخرجه عنه مسلم والإمام أحمد والنسائي وابن ماجه وأبو داود، أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، يدًا بيد، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم‏"‏ اهـ‏.‏ فإن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏سواء بسواء، مثلاً بمثل‏"‏ يدلّ على الضبط بالكيل والوزن، وهذا القول أظهرها دليلاً‏.‏

وأجابوا عن حديث أبي سعيد المتفق عليه بثلاثة أجوبة‏.‏

الأول‏:‏ جواب البيهقي قال‏:‏ وقد قيل‏:‏ إن قوله وكذلك الميزان، من كلام أبي سعيد الخدري موقوف عليه‏.‏

الثاني‏:‏ جواب القاضي أبي الطيب وآخرين، أن ظاهر الحديث غير مراد؛ لأن الميزان نفسه لا ربا فيه، وأضمرتم فيه الموزون، ودعوى العموم في المضمرات لا تصح‏.‏

الثالث‏:‏ حمل الموزون على الذهب والفضة جمعًا بين الأدلة، والظاهر أن هذه الإجابات لا تنهض؛ لأن وقفه على أبي سعيد خلاف الظاهر، وقصد ما يوزن بقوله‏:‏ وكذلك الميزان لا لبس فيه، وحمل الموزون على الذهب والفضة فقط خلاف الظاهر، واللَّه تعالى أعلم‏.‏

وفي علّة الربا في الأربعة مذاهب أُخر غير ما ذكرنا عن الأئمة الأربعة ومن وافقهم‏:‏

الأول‏:‏ مذهب أهل الظاهر ومن وافقهم أنه لا ربا أصلاً في غير الستة، ويروى هذا القول عن طاوس ومسروق والشعبي وقتادة وعثمان البتي‏.‏

الثاني‏:‏ مذهب أبي بكر عبد الرحمان بن كيسان الأصم، أن العلة فيها كونها منتفعًا بها، حكاه عنه القاضي حسين‏.‏

الثالث‏:‏ مذهب ابن سيرين، وأبي بكر الأودني من الشافعية أن العلة الجنسية؛ فيحرم الربا في كل شىء بيع بجنسه كالتراب بالتراب متفاضلاً، والثوب بالثوبين، والشاة بالشاتين‏.‏

الرابع‏:‏ مذهب الحسن البصري أن العلّة المنفعة في الجنس، فيجوز عنده بيع ثوب قيمته دينار بثوبين قيمتهما دينار، ويحرم بيع ثوب قيمته دينار بثوب قيمته دينارين‏.‏

الخامس‏:‏ مذهب سعيد بن جبير أن العلة تقارب المنفعة في الجنس، فحرم التفاضل في الحنطة بالشعير، والباقلي بالحمص، والدخن بالذرة مثلاً‏.‏

السادس‏:‏ مذهب ربيعة بن أبي عبد الرحمان أن العلة كونه جنسًا تجب فيه الزكاة؛ فحرم الربا في كل جنس تجب فيه الزكاة كالمواشي والزرع وغيرها‏.‏

السابع‏:‏ مذهب سعيد بن المسيِّب وقول الشافعي في القديم‏:‏ إن العلة كونه مطعومًا يكال أو يوزن ونفاه عما سواه، وهو كل ما لا يؤكل ولا يشرب، أو يؤكل ولا يكال ولا يوزن‏.‏ كالسفرجل والبطيخ، وقد تركنا الاستدلال لهذه المذاهب والمناقشة فيها خوف الإطالة المملّة‏.‏

فــروع

الفرع الأول‏:‏ الشكّ في المماثلة كتحقق المفاضلة، فهو حرام في كل ما يحرم فيه ربا الفضل، ودليل ذلك ما أخرجه مسلم والنسائي عن جابر قال‏:‏ نهى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن بيع الصبرة من التمر لا يعلم كيلها بالكيل المسمى من التمر‏.‏ الفرع الثاني‏:‏ لا يجوز التراخي في قبض ما يحرم فيه ربا النساء، ودليل ذلك‏:‏ ما أخرجه البخاري ومسلم من حديث مالك بن أوس رضي اللَّه عنه، قال‏:‏ أقبلت ‏؟‏ أقول‏:‏ من يصطرف الدراهم، فقال طلحة‏:‏ أرنا الذهب حتى يأتي الخازن، ثم تعال فخذ ورقك، فقال عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه‏:‏ كلا، والذي نفسي بيده لتردن إليه ذهبه، أو لتنقدنه ورقه، فإني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ الذهب بالورق ربا إلاّ ها وها، وزالبر بالبر ربا إلا ها وها، والشعير بالشعير ربا إلا ها وها، والتمر بالتمر ربا إلا ها وها‏"‏‏.‏

الفرع الثالث‏:‏ لا يجوز أن يباع ربوي بربوي كذهب بذهب، ومع أحدهما شىء آخر‏.‏ ودليل ذلك‏:‏ ما رواه مسلم في ‏"‏صحيحه‏"‏ عن أبي الطاهر، عن ابن وهب، من حديث فضالة بن عبيد الأنصاري قال‏:‏ أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو بخيبر بقلادة فيها خرز وذهب، وهي من المغانم تباع فأمر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالذهب الذي في القلادة فنزع، ثم قال لهم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏الذهب بالذهب وزنًا بوزن‏"‏‏.‏

وروى مسلم نحوه أيضًا عن أبي بكر بن شيبة وقتيبة بن سعيد من حديث فضالة بن عبيد رضي اللَّه عنه ونحوه‏.‏ أخرجه النسائي، وأبو داود، والترمذي وصححه‏.‏

وقال العلامة الشوكاني رحمه اللَّه تعالى في ‏"‏نيل الأوطار‏"‏، عند ذكر صاحب ‏"‏المنتقى‏"‏‏:‏ لحديث فضالة بن عبيد المذكور ما نصّه، الحديث‏.‏

قال في ‏"‏التلخيص‏"‏‏:‏ له عند الطبراني في الكبير طرق كثيرة جدًا في بعضها قلادة فيها خرز وذهب، وفي بعضها ذهب وجوهر، وفي بعضها خرز معلقة بذهب، وفي بعضها باثني عشر دينارًا، وفي بعضها بتسعة دنانير، وفي أخرى بسبعة دنانير‏.‏ وأجاب البيهقي عن هذا الاختلاف، بأنها كانت بيوعًا شهدها فضالة‏.‏

قال الحافظ‏:‏ والجواب المسدّد عندي أن هذا الاختلاف لا يوجب ضعفًا، بل المقصود من الاستدلال محفوظ لا اختلاف فيه، وهو النهي عن بيع ما لم يفصل، وأما جنسها وقدر ثمنها فلا يتعلق به في هذه الحال ما يوجب الحكم بالاضطراب‏.‏

وحينئذ ينبغي الترجيح بين رواتها وإن كان الجميع ثقات فيحكم بصحة رواية أحفظهم وأضبطهم، فتكون رواية الباقين بالنسبة إليه شاذة، وبعض هذه الروايات التي ذكرها الطبراني في ‏"‏صحيح مسلم‏"‏ و‏"‏سنن أبي داود‏"‏، اهـ منه بلفظه‏.‏ وقد قدمنا بعض روايات مسلم‏.‏

الفرع الرابع‏:‏ لا يجوز بيع المصوغ من الذهب أو الفضة بجنسه بأكثر من وزنه، ودليل ذلك‏:‏ ما صح عن جماعة من أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أنه صلى الله عليه وسلم صرح بتحريم بيع الفضة بالفضة، والذهب بالذهب، إلا مثلاً بمثل، وأن من زاد أو استزاد فقد أربى‏.‏

وقد أخرج البيهقي في ‏"‏السنن الكبرى‏"‏ عن مجاهد أنه قال‏:‏ كنت أطوف مع عبد اللَّه بن عمر فجاءه صائغ فقال‏:‏ يا أبا عبد الرحمان، إني أصوغ الذهب، ثم أبيه الشىء من ذلك بأكثر من وزنه، فأستفضل في ذلك قدر عمل يدي فيه، فنهاه عبد اللَّه بن عمر عن ذلك، فجعل الصائغ يردد عليه المسألة وعبد اللَّه بن عمر ينهاه، حتى انتهى إلى باب المسجد أو إلى دابته يريد أن يركبها‏.‏

ثم قال عبد اللَّه بن عمر‏:‏ الدينار بالدينار، والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما، هذا عهد نبيّنا صلى الله عليه وسلم إلينا وعهدنا إليكم‏.‏

ثم قال البيهقي‏:‏ وقد مضى حديث معاوية حيث باع سقاية ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فنهاه أبو الدرداء، وما روي عن عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه في النهي عن ذلك‏.‏

وروى البيهقي أيضًا عن أبي رافع، أنه قال‏:‏ قلت لعمر بن الخطاب أني أصوغ الذهب فأبيعه بوزنه وآخذ لعمالة يدي أجرًا، قال‏:‏ لا تبع الذهب بالذهب إلا وزنًا بوزن، ولا الفضة بالفضة إلا وزنًا بوزن، ولا تأخذ فضلاً‏"‏ا هـ منه‏.‏

وما ذكره البيهقي رحمه اللَّه أنه ما قدمه من نهي أبي الدرداء وعمر لمعاوية، هو قوله‏:‏ أخبرنا أبو زكريا بن أبي إسحاق وأبو بكر بن الحسن وغيرهما، قالوا‏:‏ حدّثنا أبو العباس الأصم، أنا الربيع، أنبأنا الشافعي، أنا مالك، وأخبرنا علي بن أحمد بن عبدان، أنا أحمد بن عبيد الصفار، حدثنا إسماعيل بن إسحاق، حدّثنا عبد اللَّه يعني القعنبي، عن مالك، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار أن معاوية بن أبي سفيان باع سقاية من ذهب أو ورق بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء‏:‏ سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مثلاً بمثل‏.‏ فقال معاوية‏:‏ ما أرى بهذا بأسًا‏.‏ فقال له أبو الدرداء‏:‏ من يعذرني من معاوية أخبره عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه لا أساكنك بأرض أنت بها، ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب رضي اللَّه عنه فذكر له ذلك‏.‏ فكتب عمر إلى معاوية أن لا يبيع ذلك إلا مثلاً بمثل ووزنًا بوزن، ولم يذكر الربيع عن الشافعي في هذا قدوم أبي الدرداء على عمر، وقد ذكره الشافعي في رواية المزني‏.‏ اهـ منه بلفظه‏.‏

ونحو هذا أخرجه مسلم في ‏"‏الصحيح‏"‏ من حديث عبادة بن الصامت رضي اللَّه عنه من رواية أبي الأشعث قال‏:‏ غزونا غزاة وعلى الناس معاوية، فغنمنا غنائم كثيرة، فكان فيما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلاً أن يبيعها في أعطيات الناس، فتسارع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت، فقام فقال‏:‏ إني سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ينهى عن بيع الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، إلا سواء بسواء عينًا بعين، فمن زاد أو استزاد فقد أربى‏.‏ فردّ الناس ما أخذوا، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبًا فقال‏:‏ ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه، فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال‏:‏ لنحدثن بما سمعنا من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وإن كره معاوية، أو قال‏:‏ وإن رغم ما أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء‏.‏ قال حماد هذا أو نحوه‏.‏ اهـ‏.‏

هذا لفظ مسلم في ‏"‏صحيحه‏"‏ وهذه النصوص الصحيحة تدل على أن الصناعة الواقعة في الذهب أو الفضة لا أثر لها، ولا تبيح المفاضلة بقدر قيمة الصناعة كما ذكرنا‏.‏ وهذا هو مذهب الحق الذي لا شك فيه‏.‏ وأجاز مالك بن أنس رحمه اللَّه تعالى للمسافر أن يعطي دار الضرب نقدًا وأجرة صياغته ويأخذ عنهما حليًا قدر وزن النقد بدون الأجرة؛ لضرورة السفر كما أشار إليه خليل بن أسحاق في ‏"‏مختصره‏"‏ بقوله‏:‏ بخلاف تبر يعطيه المسافر وأجرته دار الضرب ليأخذ زنته‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ الظاهر من نصوص السنة الصحيحة أن هذا لا يجوز؛ لضرورة السفر كما استظهر عدم جوازه ابن رشد، وإليه الإشارة بقول صاحب ‏"‏المختصر‏"‏‏:‏ والأظهر خلافه يعني‏:‏ ولو اشتدت الحاجة إليه إلا لضرر يبيح الميتة، كما قرره شراح ‏"‏المختصر‏"‏‏.‏

الفرع الخامس‏:‏ اختلف الناس في الأوراق المتعامل بها هل يمنع الربا بينها وبين النقدين نظرًا إلى أنها سند، وأن المبيع الفضة التي هي سند بها فيمنع بيعها ولو يدًا بيد مثلاً بمثل، ويمنع بيعها بالذهب أيضًا ولو يدًا بيد؛ لأنه صرف ذهب موجود أو فضة موجودة بالفضة غائبة، وإنما الموجود سند بها فقط فيمنع فيها لعدم المناجزة؛ بسبب عدم حضور أحد النقدين أو لا يمنع فيها شىء من ذلك؛ نظرًا إلى أنها بمثابة عروض التجارة فذهب كثير من المتأخرين إلى أنها كعروض التجارة، فيجوز الفضل والنساء بينها وبين الفضة والذهب، وممن أفتى بأنها كعروض التجارة العالم المشهور عليش المصري صاحب ‏"‏النوازل‏"‏،

و‏"‏شرح مختصر خليل‏"‏، وتبعه في فتواه بذلك كثير من متأخري علماء المالكية‏.‏

قال مقيده عفا اللَّه عنه‏:‏ الذي يظهر لي واللَّه تعالى أعلم أنها ليست كعروض التجارة، وأنها سند بفضة وأن المبيع الفضة التي هي سند بها‏.‏ ومن قرأ المكتوب عليها فهم صحة ذلك، وعليه فلا يجوز بيعها بذهب ولا فضة ولو يدًا بيد؛ لعدم المناجزة بسبب غيبة الفضة المدفوع سندها؛ لأنها ليست متمولة ولا منفعة في ذاتها أصلاً‏.‏ فإن قيل لا فرق بين الأوراق وبين فلوس الحديد؛ لأن كلاً منهما ليس متمولاً في ذاته مع أنه رائج بحسب ما جعله له السلطان من المعاملة فالجواب من ثلاثة أوجه‏:‏

الأول‏:‏ أنّا إذا حققنا أن الفلوس الحديدية الحالية لا منفعة فيها أصلاً، وأن حقيقتها سند بفضة، فما المانع من أن نمنع فيها الربا مع النقد، والنصوص صريحة في منعه بين النقدين، وليس هناك إجماع يمنع إجراء النصوص على ظواهرها بل مذهب مالك أن فلوس الحديد لا تجوز بأحد النقدين نسيئة، فسلم الدراهم في الفلوس كالعكس ممنوع عندهم‏.‏

وما ورد عن بعض العلماء مما يدلّ على أنه لا ربا بين النقدين وبين فلوس الحديد، فإنه محمول على أن ذلك الحديد الذي منه تلك الفلوس فيه منافع الحديد المعروفة المشار إليها بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَـافِعُ لِلنَّاسِ‏}‏، فلو جمعت تلك الفلوس وجعلت في النار لعمل منها ما يعمل من الحديد من الأشياء المنتفع بها، ولو كانت كفلوسنا الحالية على تسليم أنها لا منفعة فيها أصلاً، لما قالوا بالجواز؛ لأن ما هو سند لا شك أن المبيع فيه ما هو سند به لا نفس السند‏.‏ ولذا لم يختلف الصدر الأول في أن المبيع في بيع الصكاك الذي ذكره مسلم في ‏"‏الصحيح‏"‏ وغيره أنه الرزق المكتوب فيها لا نفس الصكاك التي هي الأوراق التي هي سند بالأرزاق‏.‏

الثاني‏:‏ أن هناك فرقًا بينهما في الجملة وهو أن الفلوس الحديدية لا يتعامل بها بالعرف الجاري قديمًا وحديثًا، إلا في المحقرات فلا يشترى بها شىء له بال بخلاف الأوراق، فدل على أنها أقرب للفضة من الفلوس‏.‏

الثالث‏:‏ أنّا لو فرضنا أن كلاًّ من الأمرين محتمل فالنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ دع ما يريبك إلى ما لا يريبك ‏"‏، ويقول‏:‏ ‏"‏فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه‏"‏، ويقول‏:‏ ‏"‏والإثم ما حاك في النفس‏"‏ الحديث‏.‏ وقال الناظم

وذو احتياط في أمور الدين ** مَن فرَّ مِن شكٍ إلى يقين